– محاضرة : قدرة الإحياء
– المحاضر : د. منى الشيخ حمادي
– المحاضرة : نصية
– قدمت في : FG – Group Academy -Turkey
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على حبيبنا محمد و آله و صحبه أجمعين ..
أفتتح هذه الفسحة الزمانية بحمد الله تعالى و شكره على ما أنعم علينا من نِعَم و أن أحيا فينا نور حبه و رحماته لننهل من معين علومه البديعة .
وأتقدم بكامل وجوه الشكر لسماحة المفكر الإسلامي العارف بالله تعالى بشارة رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلم الشيخ د. هانيبال يوسف حرب حفظه الله تعالى بما أكرمنا بإذن الله تعالى بعلوم تشريفية متفوقة كان قد أسسها بروح القرءان الكريم و السنة النبوية الشريفة و لازال يُكرمنا بما يُنعم الله تعالى عليه من خصوصيات علمية عرفانية نادرة ادخرها له من الأزل لتسري من قلبه و نفيض على العالمين حباً و نوراً و جمالاً ..
و أشكره شكراً يليق بحقيقة ذاته أن أكرمني لأكون في هذا الحياض المبارك و في هذا المهرجان المتألق الفريد و المتميز في دورته الرابعة لأبث هذه الكلمات لعل في بعض حروفها نوراً نافعاً يسطع في القلوب المحبة لله تعالى و رسوله .
فالحمد لله رب العالمين .. أبدأ و إياكم أعزائي الحضور الكرام بمحاضرة اليوم فأهلا و سهلاً و مرحباً بكم و بحضوركم الكريم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين
اهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً
إنك تجعل الحزن إذا شئت سهلاً سهلاً
لاتكلنا لأنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك
رحمتك نرجو إن ربك هو الفتاح العليم
سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب وبعد :
بسم الله الرحمن الرحيم
( قدرة الإحياء )
الحمد لله رب العالمين الحي القيوم المُحيي من العدم ، والمُحيي ببث الحياة في الأجساد كما يشاء منذ القدم ، والمُحيي بعد الموت بقَدَرٍ خطَّه بالقلم .
والصلاة والسلام على حبيبنا وسيدنا محمد رحمة العالمين الحي برقائقه في ذوات العالمين بنور أزلي مبين .. المُحيي بنور الحي المُحيي بتوهج سر تقلبه في الساجدين وآله وصحبه وسلم .
– تعريف القدرة :
القدرة هي تلك الهبة الإلهية التي يمن الله سبحانه وتعالى بها على هذا الكائن ليستطيع من خلالها أن يعيش تجليات اسم الله القادر في هذا الوجود ، فهي عبارة عن تأثير يظهر من تجلي الحق بحوله وقوته يستطيع الإنسان من خلالها أن يعيشُ تأثيراً ما في هذا العالم .
– فردانية القدرة :
يتفرد كل كائن و كل عبد بقدرة خاصة ذاتية به تتناسب مع روحه وحقيقته ؛ فيكون نوع هذه القدرة مَظهراً منبثقاً عن حقيقته حسب استعداده و استمداده من القادر جلَّ و علا ، و قد تبقى هذه القدرة حبيسة النفس إن لم يلتفت العبد لهذه الحقيقة ، و في المقابل فقد تتفعل هذه القدرة و تتطور و ترتقي في حال عمل العبد على تفعيلها و توجيهها وفق عناية خاصة .
و بذلك تكون قدرة الإحياء : هي القدرة و الهبة الإلهية الممنوحة للعبد بتجليات اسمَي الله تعالى ( القادر – المُحيي ) ليعيش قدرة الإحياء على كائن من الكائنات .
– معنى الإحياء :
الإحياء بالمعنى العام الشامل هو نقيض الإماتة .
و لقدرة الإحياء معان كثيرة مادية و روحية و معنوية إلا أنها تصب جميعاً في معنى الانبعاث الحياتي في الكائن و ممارسة حياته بنور الحياة و نور الإحياء الممنوح له .
و لا يوجد إحياء إلا بتجلٍّ من أنوار اسمَي الله تعالى ( الحي – المحيي ) :
فالحي : صفة ذاتية لله عزَّ و جلَّ يمنح من نورها بنور هويته كل الكائنات فيعطيها حياتها لتكون حية واعية درَّاكة .
و المُحيي : صفة فعلية لله عزَّ و جلَّ حيث يُمد بأنواره الإحيائية الكائن ليبعث فيه الحياة و الحركة بإحياء الروح .
و قد قال البيهقي في معنى اسم الله تعالى المُحيي : المُحيي : هو الذي يحيي النطفة الميتة، فيُخرج منها النسمة الحية ، ويُحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث ، ويُحيي القلوب بنور المعرفة ، ويُحيي الأرض بعد موتها .
– وقال بعض العلماء :
المُحيي : هو من يُحيي العوالم بسرِّه، ويغمر الموجودات بوافر برِّه .
هذا ما كان من معنى الإحياء بالمعنى العام الشامل .
أما الإحياء بالمعنى الخاص فنقول :
هناك نوعان من الإحياء :
1- إحياء قائم مطلق خاص بالنور الأحدي في ذات الله تعالى و هو إحياء المُحيي تعالى المطلق للمخلوقات بدءاً من إحيائهم من العدم فقد قال تعالى في الآية الأولى من سورة الإنسان : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴾ ، فبعد بسط هذا النور الأحدي المُحيي و سريانه في الكائنات فقد حَيي كل ما و مَن خلقه الخالق المُحيي ؛ قال تعالى في الآية 44 من سورة الإسراء : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾ فتسبيح الكائنات و الموجودات قائم بنور الحياة و الإحياء ، و لا تسبيح إلا لحي .
2- إحياء قائم محدود متعلق بنور واحدي عبدي خاص يَمنحه الله تعالى لمَن تعلَّق بالمُحيي جلَّ و علا و تخلَّقَ و تحقَّقَ به ليكون فاعلاً به .
و هذا الإحياء إنما هو من القدرات النورانية الخاصة الممنوحة للعبد بالإذن الرباني .
– مشروعية ممارسة قدرة الإحياء :
هناك تقسيمات خاصة للأسماء الحسنى تبيِّن خصائص هذه الأسماء و دلالاتها :
فهناك أسماء ذاتية خاصة بالذات الإلهية : مثل اسم ( الله – هو ..) وهذه الأسماء لا تقتضي من العبد إلا معرفتها و التعلق بها .
و هناك أسماء صفاتية و أفعالية : توجب على العبد بعد معرفتها الاتصاف و التخلق و التحقق بها فعلاً ، و من هذه الأسماء و الصفات يكون الاستمداد للقدرات النورانية القائمة في كل اسم و في كل صفة إلهية حتى و إن تفاوتت هذه القدرات بتفاوت الاستعداد و الاستمداد العبدي .
فاسم الله تعالى العليم يوجب على العبد معرفته و التخلُّق و التحقق به ليكون العبد عليماً على أوصاف سيده .
و كذلك اسم الله تعالى اللطيف يوجب على العبد معرفته و التخلق و التحقق به ليكون العبد لطيفاً على أوصاف سيده .
و كذلك اسم الله الحكيم يوجب على العبد معرفته و التخلق و التحقق به ليكون العبد حكيماً على أوصاف سيده .
و كذلك اسم الله المُحيي يوجب على العبد معرفته و التخلق و التحقق به ليكون العبد مُحيياً على أوصاف سيده .
و بذلك كان للعبد ممارسة هذه القدرة النورانية موقوفة على الإذن الرباني .
– الفرق بين قدرة الإحياء الإلهية و قدرة الإحياء العبدية :
1 – قدرة الإحياء الإلهية مطلقة ، بينما قدرة الإحياء العبدية محدودة بحدود العطاء و الإذن الرباني .
2- قدرة الإحياء الإلهية ذاتية و مانحة ، بينما قدرة الإحياء العبدية ذاتية و لكنها لا تقبل المنح فهي لازمة بذات العبد و لا تتعدى لغيره .
3- قدرة الإحياء الإلهية مطلقة وواقعة في العالَم و تُمنح للعبد بموجب المعرفة و الحكمة الإلهية ، بينما قدرة الإحياء العبدية موقوفة على المعرفة الإلهية الخاصة بالعبد و حقيقة روحه و استعداده و استمداده للواردات الإلهية و على هذا الأساس يكون العطاء و الإذن .
4- قدرة الإحياء الإلهية ذاتية قائمة باقية دائمة بديمومة الاسم الصفاتي ( المُحيي ) ، بينما قدرة الإحياء العبدية موقوفة على الإذن الإلهي .. فلا إحياء بدون إذن ، فالإذن الإلهي شرط قيام هذه القدرة ووقوعها ووقوع أثرها في العالم .
5- قدرة الإحياء الإلهية مطلقة عن التقييد بحدث معين فالإحياء قائم بقيام الاسم الإلهي الذي لا يطرأ عليه محدودية أو تعطيل و هي حاكمة ، بينما قدرة الإحياء العبدية فهي حاكمة محكومة بسبب معين أو حدث معين و لإثبات أو نفي خاص .. فالإحياء العبدي ممنوح و مصاغ بنور هوية الحكمة الإلهية .
6- قدرة الإحياء الإلهية فاعلة باستمرارية ، بينما قدرة الإحياء العبدية موقوفة على حكمة المانح المُحيي عز وجل و قد يطرأ عليها سلب من الله تعالى المُحيي .
7- قدرة الإحياء الإلهية دائمة بدوام الحي المُحيي الباقي ، بينما قدرة الإحياء العبدية فهي مؤقتة و محدودة بحياته
فالعبد ميت لا محالة .
– قدرة الإحياء و سطوة الروح :
علاقة قدرة الإحياء بالروح علاقة أساسية وطيدة قوية راسخة ؛ فلا فاعلية لقدرة الإحياء دون حاكمية على الروح ؛ لأن الإحياء بحد ذاته إنما هو فاعلية ممارَسة على الروح المرتبطة بالجسد مهما كانت طبيعة ذلك الجسد ، و بالتالي فإن الانبعاث الجسدي يقتضي استباقاً للانبعاث الروحي و حياة الروح لا سيما أن الحياة هي أولى خصائص الروح .
ومن هنا نجد السطوة و الحاكمية في مقامات الروح ؛ فالسلطة الروحية الحاكمة الأعلى لها القدرة على الإحياء ، فمَن يملك قدرة الإحياء لا شك أنه أعلى ممن مُورِس عليه فعل الإحياء ، و في ذلك نفهم التفاضل و التمايز بالقدرات و وسع و قوة و مراتب الأرواح و فاعلية قدرة الإحياء .
و لما كانت القدرة فاعلة و الروح درَّاكة فاعلة أيضاً فمَن نال من أنوار القدرة وقعت عليه مسؤولية تفعيل الإدراك و الوعي بالوجه السليم ليكون فاعلاً بالنور .
– أنواع قدرة الإحياء :
لما كانت ألوان الإحياء عديدة كانت ألوان هذه القدرة الإحيائية متلونة بتلون الاحياءات و بتلون وسع القدرة الممنوحة للعبد ، فالله القادر المُحيي واحد في ذاته مع كثرة تجلياته ، و هذه القدرة الإحيائية إنما هي تجلٍّ من التجليات ، و إنما تلونت بدرجاتها و تفاوتت لنشهد هذه القدرات الإلهية و نشهد صناعة الصانع و المُحيي لاسيما أن القدرات الإحيائية المشهودة إنما هي قدرات القادر تعالى التي منحها لعبده فلا قدرة للعبد إلا بقدرة القادر جلَّ و علا .
– أما عن أنواع قدرة الإحياء :
فهناك إحياء بمعنى الخَلق و بث الحياة في الكائن بعد خلقه قال تعالى في الآية الثانية من سورة الحديد : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ .
و هناك إحياء عام روحي حيث قال تعالى في الآية 32 من سورة المائدة : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ .
و قد يكون الإحياء مضافاً إليه معنى بث الحياة و الحركة بعد الخمود و الجمود و قد قال تعالى في الآية 33 من سورة يس : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وءايَةٌ لَّهُمُ الاَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ ياكُلُونَ ﴾ ؟
و هناك إحياء معنوي بمعنى الاتباع السليم و الاهتداء حيث قال تعالى في الآية 24 من سورة الأنفال : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ .
و هناك إحياء باعثي بعد الموت و قد قال تعالى في الآية 78 من سورة يس : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ .
و هناك الكثير الكثير من أنواع قدرة الإحياء و طُرُقها و ثمراتها فالإحياء مراتب ..
فلا يأتي شخص ليقول أن المقصود بقدرة الإحياء إنما هي إحياء روحي أو معنوي أو محدود فقط فهذا الكلام مردود لأن الله تعالى لا يُجزئ في عطائه فحين يريد أن نتخلق و نتحقق بأسمائه و صفاته فإن منحه غير منقوص و إرادته كاملة .
– ظهور الفاعلية الأولى لممارسة قدرة الإحياء :
لعلَّ ظهور قدرة الإحياء العبدية الأولى في العالَم على التحقيق كانت بسؤال سيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام حين سأل الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ﴾ ﴿٢٦٠ البقرة ﴾ .
فسيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام يعلم أن الله تعالى حي مُحيٍ ، و لو كانت قدرة الإحياء خاصة بالذات الإلهية حصراً لما سأل سيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام عنها و عن تفاصيلها و كيفية صياغتها و بالرؤية التحقيقية المباشرة و هو أبو الأنبياء خليل الرحمن اللائق بمقام الخلة .. و قد تلقى الإجابة التفصيلية من الرب سبحانه تعالى حين أُمِرَ بالتطبيق العملي الذاتي المباشر لهذه القدرة حيث قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ﴿٢٦٠ البقرة ﴾ .
– صور من آليات قدرة الإحياء :
لما كانت صور الإحياء متعددة فقد تعددت آلياتها القدروية الخاصة بكل منها و سنأتي للإشارة إلى بعض صور آليات قدرة الإحياء و نرى التنوع المدهش و خصوصية كل إحياء:
أولاً – الحضرة الجامعية لقدرة الإحياء بسر اسم الله الجامع :
قال الله تعالى في الآية 260 من سورة البقرة : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ .
لقد فتح السؤال الابراهيمي باب الحضرة الجامعة لتكون قوة فاعلة لقدرة الإحياء و بقوة الإثبات بالدليل و البرهان الإلهي فهو يريد جمع العلم والإيمان إلى حقيقة العيان : فقد سأل سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام ربه تعالى عن الكيفية التي يتم فيها إحياء الموتى طالباً رؤياها عيناً .
لم يكن السؤال سؤال تعلُّم فهو يعلم أن الله تعالى مُحي ، و لم يكن سؤال شك و العياذ بالله فهو مؤمن و إنما كان السؤال لمعرفة البيان مبنياً على السر الابراهيمي الخاص و خصوصيته الفردانية و ذلك عن كيفية إحياء الموتى بشكل عام فجاء الجواب الرباني إرشاداً علمياً عملياً مباشَراً و بخطة علمية عملية محكمة بالتنفيذ المباشر على الطير بل على أربعة أنواع من الطيور و في ذلك صورة غاية في الإعجاز !!
لم يكن قوم سيدنا ابراهيم عليه الصلاة و السلام مجادلين حول قدرة الإحياء البشري بعد الإماتة ليُثبت لهم نبيهم هذه القدرة بتطبيقها على البشر و إنما كان سؤاله ليجمع العيان إلى العلم و الإيمان و الوصول إلى كماله الذاتي بمعرفة كمال الحقيقة فكان التطبيق العملي على الطيور .. و هناك الكثير من الأسرار حول هذه الحقيقة .
ورد أن هذه الطيور الأربعة : طاووس و حمام و غراب و ديك ، فهذه الطيور الأربعة بأرواح أربعة و طبائع و أشكال مختلفة و إن كانوا من نفس الفصيلة ، فروح الإماتة و الإحياء وقعت على جمع و ليس على إفراد .
و في هذا المثال الإحيائي تفاصيل و معلومات كثيرة منها :
1- تجلي نور الحياة و الوعي و الإدراك وهي من أنوار اسمه تعالى ( الحي ) متجلية في الكائن الذي مورست عليه قدرة الإحياء و في أجزاء ذاته .
2- وجود نور العلم في أجزاء الطيور و هي من أنوار تجليات اسمه تعالى ( العليم ) حيث تعرَّف كل جزء من أجزاء الطير إلى أجزائه الأخرى .
3- وجود نور الإنفعال للحق ( الإجابة ) في الطيور و هي من أنوار اسمه تعالى ( المجيب ) حيث تستجيب الحضرة الأدنى للحضرة الأعلى .
4- وجود نور الآمرية و قوة الاستدعاء الروحي الثابتة في قدرة الإحياء ، فالروح جوهر فرد جامع للذات الواحدة مهما تشرذمت الأجزاء .. فالروح آمرة بالذاتية لما تتحكم به ، مأمورة بالتبعية للمتصرف و الخليفة الآمر بأمره .
5- رسوخ الإيمان شرط لممارسة قدرة الإحياء .
ثانياً – القدرة الإحيائية بروحانية الضرب :
من صور قدرة الإحياء المدهشة هي روحانية الضرب ، و الضرب هو قوة ممارَسة على المضروب ، و المدهش في هذه الصورة الإحيائية أن الضرب كان بجزء ميت من حيوان ميت و لكن كان فيه قوة الحياة .
قال تعالى في الآية 73 من سورة البقرة : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ .
وهنا تجتمع حقائق كثيرة في هذه الصورة لقدرة الإحياء منها :
1- قدرة الإحياء كانت بفعل الضرب ، و المعروف أن الضرب فعل جلالي إلا أنه في هذه القدرة الإحيائية كان فعلاً جمالياً و ذلك لأنه :
أ- كان بجزء ميت بميت فلا جلال محسوس من الضارب أو المضروب أو المضروب به .
ب- ظهور قدرة الإحياء و هي قدرة جمالية .
ج- تحقق الإحياء بإحياء الرجل الميت و في الحياة جمال .
د- إظهار الحقيقة التي كانت خافية عن بني اسرائيل و الحقيقة جمال .
2- كان الضرب حصراً بجزء ميت من حيوان ميت بل من بقرة ميتة حصراً و وقع الفعل على إنسان ميت لتظهر الحياة .
3- ناسب الضرب بجزء ميت من حيوان ميت الشخص المقتول و هو من بني إسرائيل ليحيا بتقنية تناسب روح المقتول ؛ فكما أُثير الجدال و التساؤل حول تلك البقرة التي ضُرب ببعضها كان الميت مثار جدال و تساؤل بين القرى ليعرفوا من القاتل ؟ فهنا تلاقٍ للنسبية و التناسبية بين روح الحياة و حقيقتها الحيوانية و بين قدرة الحياة التي وقعت على الميت فأحيته .
4- سر القدرة الإحيائية كان في الظاهر بمعادلة محددة :
أ- توجيه رباني أن تكون قدرة الإحياء بفعل الضرب .
ب- من أساسيات قدرة الإحياء الاستجابة للأمر الرباني .
ج- الضرب بجزء من بقرة ميتة .
و الحقيقة جامعة هي في سر القدرة الإحيائية بالإذن الإلهي .
5- قدرة الإحياء هي قدرة روحية تستهدف الجسد البشري المادي وهذه المشهد بإحياء الجسد المادي يناسب تفكير بني إسرائيل الذين لا يؤمنون إلا بالماديات ليروا مثالاً مباشراً على إحياء الله تعالى للموتى جميعاً و هم الجاحدون باليوم الآخر و البعث ، و الحقيقة أن الله تعالى يحيي الميت مباشرة دون أداة و إنما جعلهم يمارسون هذه القدرة بالمباشرة و بأيديهم لتكون حجة عليهم وليجعل الأسباب مظهراً .
ثالثاً – قدرة إحياء الذوات بنور الاتباع :
لعل قدرة الإحياء المادي هي إحدى القدرات المدهشة و البديعة إلا أنها مهما كانت فإنها لا
تخرج عن كونها آنية و لهدف معين ، و الإحياء الأهم بل قدرة الإحياء الأهم هي قدرة إحياء القلوب و الأرواح بماء العلم و المعرفة بنور الاتباع و الاهتداء فقد قال تعالى في الآية 25 من سورة الأنفال : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ .
و من هذه الصورة الخاصة و المميزة لقدرة الإحياء نخلص إلى معارف و حقائق هامة أهمها :
1- الاتباع إعلان واضح عن قبول العبد لنور الإحياء و تفعيل هذه القدرة ، و بالتالي فإن الامتناع عن الاتباع تعمد واضح لعدم قبول نور الإحياء بتجلي اسم الله تعالى ( المُحيي ) .
عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول اللّه اجعلني على شيء أعيش به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا حمزة نفْسٌ تُحييها أحبُّ إليك أم نفْسٌ تُميتها ؟ قال : بل نفْسٌ أُحييها ، قال: عليك بنفسك . أخرجه أحمد .
2- دعوة الإحياء بالاتباع أمر مباشر من الله تعالى و رسوله و رفض هذه الدعوة هو حياد و جنوح عن إجابة أوامر الله تعالى و رسوله .
3- الإيمان لا يُجزئ عن الاتباع ، بل المؤمن الحقيقي هو مَن يتبع ليحيا .
4- الزمن السابق للاتباع خالٍ من الحياة الحقيقية ، فقدرة الإحياء فاعلة في العبد ليبدأ حياة النور الاتباعي .
5- قدرة الإحياء المتوجهة على العبد بتلبيته لنور الاتباع تطال نفسه و روحه و قلبه و سره .. أي كينونته الكلية و في ذلك يكون ارتقاؤه العبدي .
– شروط عيش قدرة الإحياء :
إن شروط عيش قدرة الإحياء كثيرة نذكر منها :
1- أولى و عماد عيش قدرة الإحياء هو الإذن الرباني ، فصدور الإذن الرباني الخاص و المباشر هو الأساس الذي تقوم عليه قدرة الإحياء و بدون الإذن لا إحياء و لا فاعلية له .
2- توجُّه العبد للاستعانة برب العالمين بحقيقة رقائق ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فالاستعانة هنا هي المكمن الأول للقيام بالقدرة ، و النون في كلمة ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ هي حشد و محشر لمعاني التوجه القدروي في العبد ، و هي نور رقيبي لتحقق القدرة الإلهية في الكون بنور الفاعلية الإلهية و الخصوصية العبدية .
3- التوجه بالكلية بسر الإحياء الفرداني لاسيما أن هناك أنواع و أصناف عديدة للإحياء .
4- أن يكون مظهر قدرة الإحياء حياً ، فلا يُحيي إلا حي ، فالحياة شرط من شروط الإحياء .
5- أن يكون هناك هدف محدد فلا عبثية و لا عشوائية مبررة في الكون المنظم و المضبوط و المحكوم بحكمة الحكيم جلَّ و علا .
6- أن يكون فاعلاً بالله تعالى ، و هنا لا بد من الإشارة إلى أن قدرة إحياء الموتى كما يفعلها المؤمنون القائمون بالله تعالى فقد تكون من كافر كما سيفعل ذلك الأعور الدجال في آخر الزمان و يكون فعله فتنة لأهل ذلك الزمن و امتحاناً و هو بذلك لا يخرج فعله عن الإذن الإلهي و إن غاب و غفل هو عن هذه الحقيقة .
7- أن يكون هناك تصور مسبق واضح لا لبس فيه عن الحياة المنشودة في الكائن الذي يتوجه إليه فعل الإحياء فلا يكون الإحياء عشوائياً .
8- أن تكون روح الفاعل لفعل الإحياء أوسع و أكبر قدرة من المُحيى بالمحيي .
9- أن يكون مظهر فعل الإحياء يعلم و يعرف تماماً مدى هبته القدروية و طبيعة و نوع الإحياء الذي يستطيع ممارسته .
10- أن يكون مظهر فعل الإحياء متيقناً بوجوب حدوث الإحياء ووقوعه بإذن الله تعالى وقوعاً حتمياً و بإذن رباني لا بقدرته و فعله الشخصي أو الذاتي .
إلى هنا نصل إلى ختام محاضرة اليوم ..
أرجو الله تعالى أن يتقبل حروفنا خالصة لوجهه الكريم و أرجو أن تكون هذه الصفحات قد حملت الفائدة و النفع .
أشكركم جميعاً و أشكر حضوركم الجميل الذي أضاء هذه الليلة بأنوار أرواحكم و قلوبكم النيرة و أرجو الله تعالى أن يكرمنا جميعاً بمزيد العلم و العمل به و يحيي قلوبنا برقائق حبه و يجعلنا متحققين باسمه المحيي و هو عنا راض آمين .
و إلى لقاء قريب يحمل معه مزيداً من العلم و المعرفة .
أستودعكم الله الحبيب الرحمن و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
تمت والحمد لله رب العالمين