– عنوان المحاضرة : الحرف قدرة
– المحاضر : د. رنا حمد
– المحاضرة : نصية
– قدمت في : أكاديمية FG – Group الأمريكية
الحمد لله رب العالمين
الرحمن الرحيم
ملك يوم الدين
إياك نعبد وإياك نستعين
إهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
اللهم لاسهل إلا ماجعلته سهلا
إنك تجعل الحزن إذا شئت سهلاً سهلا
لاتكلنا لأنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك
رحمتك نرجوا
إن ربك هو الفتاح العليم
سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب وبعد :
الحمد لله الذي جعل التربية مشتقة من اسمه ، وجعل أشرف الأعمال عمل المربين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث بالرحمات وعلى آله وصحابته أولـي النهى والمكرمات ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان مابقيت الأرض والسموات .
في بداية أمسيتنا لهذه الليلة ، أحمد الله العظيم وأشكره شكراً كثيراً أن وفقنا إلى تعلم شطر يسير من هذا العلم الجليل لنزداد تقوى وإيماناً .. وأتقدم بجزيل شكري وعظيم إمتناني إلى شيخي ومربي د.هانيبال يوسف حرب ، الذي سطّر مفاهيم العلم .. وترجمها بمداد الحكمة والفهم .. فعلّم بأفعاله قبل أقواله .. وربّى بصمته قبل كلامه ..
والذي علَّمنا كيف ننال الحب من الرب .. لنرتقي ونصل إلى أعلى مراتب القرب ..
فكنت يا شيخي – بصدق – المربي والقائد والأب والمعلم ..
والشكر أكيد موصول لكم أحبتي الحضور الكريم وكل من لبى الدعوة ..
– معنى الحَرْف في اللغة : الحافة ، والطرف ، والشفير ، والحد ، والناحية ، والجانب .
– أما معنى الحرف اصطلاحاً :
يعرف ( الحرف ) بأنه : ” كلمة تدل على معنى ” .
ومدار أمسيتنا لهذه الليلة التنويه على أن ليس المطلوب عند المحققين الصور المحسوسة لفظاً ورقماً للحروف ، وإنما المطلوب المعاني التي تضمنها هذا الرقم أو هذا اللفظ وحقيقة اللفظة والمرقوم عينها .. فهي حياة وراء حياتنا .. وفاعلية فوق فاعليتنا ..
حروف المعجم إنما سميت كذلك ” لأنها عجمت على الناظر معناها ” ..
وإذن فهي تعد سراً من أسرار الله تعالـى ، والعلم بها من أشرف العلوم المخزونة عند الله تعالى ، وهو من العلم المكنون المخصوص به أهل القلوب الطاهرة من الأنبياء والأولياء ، كما يعد هذا العلم أفضل من العلم الطبيعي أو العلم الكوني ..
فلا يستطيع أهل العلم من نشر كل ما لديهم من هذه الأسرار في الكتب ، وإن كان من الممكن فقط مشافهة واحد من اثنين بها :
إما عارف شبيه له في علمه بهذا الفن ..
أو مسلم في أكمل درجات التسليم ..
وهو يشترط لمثل هذا التصريح أن يكون عن طريق المشافهة . وليس عن طريق الكتب !!
إنه لمن الصعب جداً الكلام عن علم الحروف :
أولهما : بُعد وغرابة المفاهيم المتعلقة به عـن العقلية الحديثة المنحصرة في تصورات نحتتها من النظريات المادية أو الفكرية المنقطعة عـن المبادئ الميتافيزيقية والتعاليم الإلهية ؛
والسبب الثاني : هو أن هذا العلم يصـح عليـه حقـاً وصف ” محيط بلا ساحل “ ، إذ أّنّ مجـرد المـدخل إلـى مبادئـه الأولـى يحتـاج بيانـه إلى مجلدات ضخمة مستقلة .
والرسوخ في هذا العلم من الشروط الأساسية لفتح كنوز المعارف الإلهيـة العليا المخصوصة بأولياء الرحمن ، وله حقائق تبدو غريبة لمن ليس له ألفة بالمعارف العميقة ، مثلاً :
إن الحروف أمة من الأمم مخاطَـَبون ومكلَـَفون وفـيهم رسل من جنسهم ، ولهم أسماء من حيث هم ، ولا يعرف هذا إلا أهل الله تعالى ..
فهم كبقية العوالم التي تسري فيها الحياة ، ويوجد بها مكلفون ، ويظهر منها رسل ، ويخصص لها شريعة ، فالحروف أمة من الأمم ، مخاطبون ومكلفون . وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف لدينا .. فهؤلاء عوالم ، ولكل عالم رسول من جنسهم . ولهم شريعة تعبدوا بها . ولهم لطائف وكثائف . وعليهم من الخطاب الأمر ، ليس عندهم نهي .
كيفية تكوين الإنسان للكلاّم تكون بانقطاع لهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سمي مواضع انقطاعه حروفاً ، فظهرت أعيان الحروف ، فلما تآلفت ظهرت الحياة الحسية في المعاني .
كان قد قيل قديماً : إذا كانت الأعداد هي من أسرار الاقوال فإن الحروف هي من أسرار الآثار والأفعال ..
وما هي إلا القدرة ..
قوّة المَرء على فعل شيء ما ، والتمكُّن منه ، والتغيير فيه .
فمن ضمن سور القرءان الكريم المائة والأربعة عشرة تسع وعشرون سورة تبدأ بالحروف أي ما يقرب من الربع . منها خمسة حروف متصلة أو منفصلة ، وهو أقصى تركيب . ومجموعها مع التكرار ثمانٍ وسبعون حرفاً .
فاللغة ليست فقط أداة للتعبير والإيصال بل هي ” منزل الوجود ” . التعبير عن طريق الكون وحركات الكلمات التي تطابق حركات الوجود .
إذن يتم الخلق باللغة ، جمّاع الحروف والكلمات والمعاني والأشياء . الوحدة الأولى في الكون هي اللغة . وتم الخلق بالأمر .. والأمر كلمات .. والكلمات حروف !!
شهدت بذلك ألسن الحفاظ ، إن الحروف أئمة الألفاظ ..
قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {27} لقمان .
{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا {109} الكهف .
فتفكروا يا إخوتي في كلمات الله تعالى وآياته المحكمات ..
ولو فتحنا الكلام على سرائر هذه الحروف العاليات من الذكر الحكيم وما تقتضيه حقائقها ، إظهار لمع ولوائح إشارات من أسرار الوجود ، لكلت اليمين ، وجف القلم وجف المداد ، وضاقت القراطيس والألواح . لذلك علينا أن نتجه بالحرف إلى الروح ، ومن التنزيل إلى التأويل ، ومن الظاهر إلى الباطن ، ومن الجزء إلى الكل ، ومن النهاية إلى البداية .
العلم أساس المعرفة الكونية وأساس التخصص والشمول ..
ولعل أهم العلوم وأساسها هو ( علم الحرف ) الذي يعتبر ولا شك أبو العلوم وأهم العلوم حيث أنه ينطلق من فهم الحرف وروحه ووجوهه وبالتالي معنى الكلمة ومعانيها وتأثيرها ..
وهذا يعطي أبعاداً لا نهائية في الفهم الظاهر والفهم الماورائي ، وتطبيقاته الكشفية و القدروية ..
فبالحرف نفهم الوجود ، ونكتشفُ مُعَمَّيَاتِه وملابساته . فالوجود حرف ، والحرف وجود ، فهما معاً يتماهيان ، وهما معاً يتبادلان الأدوار في مرآة الحياة والذاكرة والدين والأسطورة والمخيال ، وفي فضاء الترميز بالقوة القَوَوِيَّةِ والتجريد المتعالي .
وإذا كانت حبة الرمل تختزن الصحراء وتؤشر عليها ، وقطرةُ الماء تختزل البحرَ وتومئ إليه ، ونبضةُ العِطر تحوز الأزهارَ وتدل عليها ..
فإن الحرف هو كذلك يمثِّل كثافة الوجود في أعالي أعاليها ، فهو الشجرة الرامزة إليه أونطولوجياً ..
إذْن ، من هذه الشجرة خرج الأمر الإلهي ، فصار كوناً ووجوداً هو عبارة عن شجرة الكون التي يُجَسِّد كل جزء من أجزائها حرَكِيَّةَ الوجود ، وتوهجَ اختلافاته ، وتناغمَ إيقاعاته ، وتشابكَ دلالاته .
إن الوجود حرف لا تكون الكتابة إلا به ، والخلْق كتابة ، والكتابة غرْسٌ ، والغرس نفْسٌ ، والنفْس وجود . وهكذا تبتدئ دائرة الوجود بالحرف وتنتهي به وإليه .
لكل من أراد أن ينكر نقول :
الرمز غير مباحٍ إدراكُ مراميه للعموم . لكن ليس بممنوع عن الخصوص لقوله تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ .. {269} البقرة .
ومن باب فضله ، قال تعالى : { ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ .. {4} الجمعة .
إن سر كل أمة في كتابها .. وسر كتاب الله تعالى القرءان الكريم في الحروف ، والحروف مختلفة الاشكال ، ومن ذلك فقد اكتسبت الحروف العربية هالة عظيمة من الأهمية بسبب ذلك ..
وقد اشترك الملوك والأمراء والزهاد والعلماء قديماً في انشغالهم وبحثهم عن المعاني الخفية ودلالة كل حرف من حروف اللغة العربية لغة القرءان العظيم .. فقد اعتقدوا أن لكل حرف من الحروف الهجائية معنى مرتبطاً بالذات الإلهية ، أو بالكشف عن أسرار الكون ، أو بالإشارة إلى درجة من درجات الطريق للوصول إلى الله جل جلاله .
وحروف اللغة العربية تتكون من (28) حرفاً غير ( لام ألف ) وهي تمام الـ (29) حرفاً .. وذلك بعدد منازل القمر !!
أما أسماء الحروف العربية فتطلق عليها تسميتان : ( الحروف الأبجدية ) وهي ( أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظع ) والتي يقال أن أصلها سريانية نزلت على سيدنا إدريس وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أجمعين .. أما ( الحروف الهجائية ) فهي ( أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ و ي ) مرتبة .
الحروف والكلمات :
تجتمع الحروف على أنحاء خاصة ، فتكون الكلمات .. فـ ( كـن ) كلمة – تلك الكلمة التي بها ظهر الكون عن الله تعالى ، وهي التي استبدل بها العارفون – تأدباً مع الله – كلمة ( بسم الله ) المساوية لها في القيمة ، والأثر .
وتقريباً للفكرة بطريقة علمية حديثة ، وهي إذا قررنا أن العناصر المختلفة التي تدخل في تركيب شيء ما ، لا تؤثر بخصائص كل عنصر فيها على انفراد وإنما بخاصية اجتماع هذه العناصر معاً .
يقول ابن عربي : ” واعلم أن الحروف كالطبائع والعقاقير ، بل كالأشياء كلها : لها خواص بانفرادها ، ولها خواص بتركيبها ، وليس من خواصها بالتركيب لأعيانها ، ولكن الخاصة لأحدية الجمعية ، فافهم ذلك ، حتى لا يكون الفاعل في العالم إلا الواحد ” .
وترتبط الفكرة الأخيرة من النص السابق القائم على الحب ، الذي يصدر فيه الإنسان الكامل – في جميع أفعاله – عن إرادة إلهه ” فينفعل عن العبد بـ ( البسملة ) – إذا تحقق بها – ما ينفعل عن ( كن ) ، فكأنه يقول : ( بسم الله يكون ظهور الكون ) ، فهو إخبار عن حقيقة ، اقترن بها صدقُ محبوبٍ ، كان الحقّ سمعَه وبصرَه ، فيكون عنه مما يكون عن ( كن ) ” .
فالله تعالى قد أفرد العارفين في الدنيا بهذا الاختصاص ، الذي سيعم في الجنة جميع المؤمنين ..
فلمركبات الحروف منافع كثيرة عالية الشأن عند العارفين ، إذا أرادوا التحقق بها حركوا الوجود من أوله إلى آخره . فهي لهم هنا خصوص ، وفي الآخرة هي عموم لجميع أهل الجنة . بها يقول المؤمن للشيء يريده : ” كن ، فيكون ” .
الإنسان بالحرف قادر :
فالعـالم كتـاب ﷲ تعالى المنشور ، فالكائنات كلها كلمات الله تعالى التي لا تنفد ، وحروفها الأصلية هي أعيانها الثابتـة في العلم الإلهي الأزلي المحيط ، وهي التي تسمى : ” الحروف العاليات ” .
ففي ذلك المستوى المبدئي كل حرف هو في نفس الآن عدد . وتتنزل هذه الحروف العاليات بالنـَفَـَس الرحماني أو كلمة التكوين : ( كن ) .
عبر مراتب الوجود وذلك انطلاقاً من ” القلم الإلهي “ الذي سطرها عند البـدء في ” اللوح المحفوظ “ ، وانتهاء بالإنسان الجامع لكل تلك المراتب ، حيث تجلت فـي أكمـل مظاهرها في لغة القرءان الكريم لغة ..
الإنسان المحمدي الكامل .
وبالتالي يمكن فهم وجود تناسب بين الحروف ومختلف أقسام العالم الظاهر ، لا سيما العالم الإنساني . ومن ناحية أخرى ، بحكم التناسب بين نشأتي العالم الصغير – أي الإنسان – والعالم الكبير – أي الكون .
وفي هذا السياق تنسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أبيات منها :
إذا كنت تقرأ علم الــحروف فذاتك لـــــوح به أسطـــر
أتحسب نفسك جرماً صغيراً وفيك انطوى العالم الأكبر
خلاصة :
بالرغم من أن حروف المعجم قد عجمت عن معناها إلا أنها تعبر عن العظمة والأسرار . ومنها تتكون الأسماء الإلهية .
الحروف إذن هي التي تربط بين الإنسان والعالم والألوهية . هو القاسم المشترك بين العوالم الثلاثة . وبالرغم من تفرقها وانفصالها إلا أنها أداة ربط ووصل .
ومن هذه الاعتبارات ، توجد في اللغات المقدسة التي تكلم بها الحق تعالى – وفي مقدمتها لغة الكتاب الجامع والنبي الخاتم أي العربية القرءانية – علاقة عضوية في غاية اللطافة والعمق والمتانة بين الاسم والمسمى من جهة ، وبين الحروف والكلمات وأعدادها من جهة ثانية ..
فعلم الحروف هو علم ميزان حقائق الوجود ، الذي يمكن من العثور على مفاتيح كل المعارف من خلال فحص العناصر المكونة للكلمات وحروفها . وهو علم خاصة الأولياء الذين أوتوا منطق الطير .
وهو اللغة المشتركة بين العلوم الإلهية ومعارف النشآت الكونية والإنسانية وأسرار الحقائق القرءانية ..
ومدارج السلوك عبر معارج الولاية في مقاماتها وأحوالها .
وبه تظهر الروابط بين مبادئ الظهور وأصول التكوين وتناسبها مع الحروف والكلمات وأعدادها ..
ومع دوران الدراري والنجوم في أفلاكها ، ومع العناصر وطبائعها ، كل ذلك في نسق من الانسجام الوجودي المطلق الذي لانهاية لجماله وعظمته وكماله .
وكما قيل :
( تحت خمار الغيرة للحرف تتأجج نار الحب بين الهو والذات ) .
وفي هذا المقام أنشد الشيخ الأكبر :
إن الـــوجود لـــــحرف أنـت مــــعناه وليس لي في الكون إلا هو
الحرف معنى ومعنى الحرف ساكنه ومـا تشاهد عين غير معناه
أشكر لكم طيب حضوركم وجميل حروفكم وكلماتكم ..
أرجو من الله تعالى الحبيب ، أن أكون قد وفقت إلى توصيل الرسالة المرجوة من هذه الأمسية ..
أتمنى لكم حروف وفاق وسعادة وحب وزيادة قرب .
على أمل اللقاء في قادمات الأيام بكل ما هو مفيد ونافع ..
يسرني أن أنتقل معكم إلى قناة دورات وعلوم د.هانيبال يوسف حرب لنكمل نشر كتاب ( علم تماهي الحب ) إن شاء الله تعالى .. إضغط للمزيد .
تمت والحمد لله رب العالمين