ثقافة الإعتذار

سطور من دائرة خاصة بين علم الاجتماع وبين علم النفس

– عنوان المحاضرة : ثقافة الإعتذار

– المحاضر : أ. منتهى عثمان

– المحاضرة : نصية

– قدمت في : FG – Group Academy -Turkey 



خير ما نبدأ به حديثنا بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمدلله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدي وحبيبي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

السلام عليكم سلام الله القدير العزيز وبركاته القدسية

 

يعتقد الكثير من الناس أن الإعتذار سمة من سمات الشخصية الضعيفة وأن الأشخاص ضعيفي الشخصية هم فقط من يقدمون على الإعتذار وهذا مفهوم خاطئ ..

فالإنسان القوي هو من باستطاعته أن يبادر ليتأسف عما أخطأ به من أفعال وأقوال ..

وضعاف الشخصية والنفوس هم الذين تأخذهم العزة بالإثم ويتهربون من الإعتذار عن الأخطاء التي يرتكبونها بمبررات أخرى واهية .

من الملاحظ أن هناك فجوة تحيل بين الكثير منا وبين الإعتذار ..

وكأن هذه الصفة لا تناسبنا أو أن عليها علامات استفهام جدلية ، لهذا لا نعلمها لأجيالنا ولا نجعلها عادة في حياتنا ..

فالإنسان كثير الأخطاء ، ومن الوارد جداً أن يرتكب خطأ بحق أي إنسان آخر وساعتها يلجأ إلى الإعتذار لإصلاح الأمور التي ساءت جراء فعلته وما ارتكبته يداه .

وحقيقة فإن كثيراً منا يعلم أولاده منذ الصغر المكابرة على الخطأ والإلتفاف حول الموضوع بكافة السبل دون اللجوء للإعتذار كحل سريع يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح .

 

– ما هي ثقافة الإعتذار ؟

هي حالة يُعبّر من خلالها الإنسان عن أسفه تجاه أقوال أو أفعال صدرت منه تجاه شخص محدد ..

ويكون الدافع وراء ذلك مراعاة مشاعر الآخر والإعتراف بالأخطاء التي ارتكبها في حق المُعتذَر إليه .

 

– هل الإعتذار دليل ضعف ؟

الإعتذار ليس دليل ضعف أو فشل كي نخجل منه ..

يكفي أن نعلم أن مجرد الإعتذار هو اعتراف بالخطأ ورجوع عنه ..

وبالتالي فإن ترجمة هذا الشعور إلى فعل حسي ملموس يحتاج إلى قوة محركة تجبر النفس على النزول إلى الحق ومحاسبة ذاتها وهذا لا يكون إلا عند من ملك صفة الشجاعة ..

إذا كنت من الذين يَجّبُرون الإساءة بالإعتذار فاعلم أنك شجاع .

في بعض المجتمعات يعتبر الإعتذار جزءاً من مقوماتها وثقافتها الفكرية ، فتراهم يزرعون في أطفالهم ثقافة الإعتذار منذ الصغر ..

حتى أن الأمر عندهم وصل حداً جعلهم يقرنون الصفح عن المخطئ أو تخفيف العقوبة عن المجرم بالإعتذار وسنجد أنه وعندما تخطئ النخب في هذه المجتمعات فإن أول مطالب هو دعوة المخطئ للإعتذار عن خطئه بحق الدولة والمجتمع وحتى الأفراد .

الإعتذار ليس كلمة تقال في زحمة الحديث وتبرير الخطأ ..

أو البحث عن مخرج من الورطة التي سببها سلوك ما خاطئ ..

الإعتذار يعني الإقتناع التام بأن هناك خطأ ينبغي تصحيحه وهو ما أوجب الإعتذار ..

وبالتالي فإن نوع الإعتذار لابد وأن يقترن بنوع الخطأ وحجمه ..

أن نخطئ فنعتذر لا يعني أننا أشخاص سيئون بل جيدون لأننا نحاول إصلاح أخطائنا فليس من بشر معصوم عن الخطأ بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام .

قد تكون نية البعض بالإعتذار صادقة لكن طريقة اعتذارهم ربما تزيد الأمر سوءاً ..

فتفاقم المشكلة بدل حلها ومرد هذا الأمر جهل بثقافة الإعتذار والسلوك الذي ينبغي إتباعه ، فالإعتذار هدية تعبر عن تقديرنا وحبنا أو احترامنا لمن أخطأنا بحقهم ..

– اعتذر أولاً عن الخطأ وبشكل واضح وصريح لا لبس فيه ..

ثم …

– ناقش وبرر ووضح في حال دعت الضرورة لذلك .

الخطأ مع الله عز وجل هو أعظم الأخطاء حيث يقابله استغفار وتوبة نصوح ..

وهو أسمى مراتب الإعتذار والتوبة هنا أسف وندم مقرون بتعهد على عدم الرجوع لهذا الخطأ مجدداً .

لكن الإنسان بطبعه مجبول على الخطأ فنجده يعود إلى معصية الخالق بشكل أو بآخر فيذنب ويتوب ثم يذنب ويتوب ..

ولايزال الله تعالى يغفر ويقبل توبة العبد مالم يغرغر ..

يقول الله عز وجل : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} الزمر

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” كل إبن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ” .

الإعتراف بالخطأ فضيلة .. والإعتذار عنه فضيلة أخرى .

كلاهما فضيلتان تعززان الحفاظ على روابط الألفة والمحبة بين البشر وهما في نفس الوقت وسائل تمنعنا من فقدان من نحب ..

الإعتذار بلسم يشفي الكثير من الجروح  ويمنع تطور الخصومة إلى جفاء فعداوة .

يعتقد البعض أن من البشر من لا يستحق الإعتذار ..

في حين أن البعض الآخر لا يتردد بالإعتذار لشخص غريب ..

لكنه يجبن عن الإعتذار لقريب أو صديق ..

وهذا تناقض صارخ مرده لأحد أمرين :

1- إما إستعلاء وتكبر .

2- أو أنه يتوقع من الطرف الآخر أن يتفهم الموقف ويسامحه بشكل آلي .

 

بعض الناس لا يعتذر لمن هم دونه لكنه لا يتردد في بذله رخيصاً لمن هم فوقه ، أو لجهة قوية نافذه يخشى ردة فعلها ..

وهذا لعمري” قمة الضعف ” لأن الخوف كان هو الدافع للإعتذار ..

الأمر الذي يمكن تصنيفه بالحالة المرضية أو سوء الفهم ..

الإعتذار لغة النفوس الراقية التي تحترم ذاتها .. ولا يكون إلا بطريقة ودية تعبر عن رقي وفهم المخطئ لخطأه وحرصه على عدم خسارة من أخطأ بحقهم .

– ما هي أنواع الإعتذار ؟

الإعتذار بحسب سيكولوجية الأشخاص ، له أنواع متعددة أصنفها كما يلي :

1- إعتذار شكلي :

أو سطحي وغالباً ما يكون رفعاً للعتب ، لكنه بالعموم غير صادق .

2- إعتذار مجاملة :

ويهدف لمجاملة شخص ما عن خطأ بسيط قد لا يستدعي الإعتذار وربما يكون بهدف لفت الانتباه .

3- إعتذار سريع :

غالباً ما يتم تقديمه فور حدوث الخطأ ، الذي ربما يكون عارضاً أو نتيجة سوء فهم ، وسرعة الإعتذار لا تعني أنه رفعاً للعتب .

4- إعتذار مجادلة :

هو إعتذار يصاحبه جدال لا يعترف بالخطأ ، ويسعى لتبريره ، وربما يكون اعترافاً جزئياً بالخطأ أو رفعاً للعتب .

5- إعتذار المكره :

يكون بناء على خشية من سلطة أو قضاء أو أشخاص ذوي نفوذ ، أو تجنباً لخسارة شخص ما أو تلافي عقوبة .

6- إعتذار صريح :

هو الإعتذار الواضح الذي لا لبس فيه ، والناتج عن قناعة المعتذر بخطئه وسعيه لإصلاحه ، ويركز على كسب ود الآخر .

7- إعتذار عام :

إعتذار يسعى لكسب شعبية ، وهو الذي تقدمه شخصيات اعتبارية كالزعماء والمسؤولين ، أو مؤسسات على صلة بالدولة والمجتمع .

 

– كيف يكون الإعتذار الصحيح ؟

الإعتذار الصحيح له شروط لابد من توفرها  وأهمها :

1- سرعة المبادرة بالإعتذار .

2- عدم محاولة تبرير الخطأ .

3- الصدق في الإعتذار .

4- عدم التعالي أو التلاعب بالكلمات .

5- إختيار الوقت والطريقة المناسبتين ، فليست كل الأخطاء واحدة .

 

الإعتذار فن إنساني لا يتقنه جميع البشر رغم أنه لا يتطلب علماً أو ثقافةً كبيرين بل شيء من أدب وتواضع وقدرة على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء ..

من هنا فإن أجمل أشكال الإعتذار هو :

1- إعتذار القوي للضعيف .

2- إعتذار الكبير للصغير .

3- إعتذار الوالد للولد .

 

– ما هي الآثار المترتبة على ثقافة الإعتذار ؟

بعض من أجوبة الحضور :

1- الاعتذار يمنع زيادة الخصومة وتطورها .

2- التسامح والمحبة والالفة بين الناس .

3- الاحترام المتبادل والتسامح والمحبة .

4- الترابط بين المجتمع .

5- الراحة النفسية ولا تأنيب من الضمير .

جميلة إجابتكم يا سادة ..

تشيع ثقافة الإعتذار في المجتمعات المتقدمة التي تحترم الكيان الإنساني ..

ومن أهم آثار شيوع هذه الثقافة في حياة الناس ما يلي :

1- زيادة المودة والمحبة بين الناس .

2- سد الشرخ الحاصل في العلاقات الإنسانية .

3- تعزيز العلاقات الشخصية .

4- معرفة مدى أهمية الإنسان بالنسبة للأطراف الأخرى .

5- في حالة مبادرة المؤسسات أو الشركات إلى الاعتذار من العملاء أو الزبائن فإن ذلك يعزز ثقة العميل بالمؤسسة ذات العلاقة ويدفع به إلى استمرارية التعامل معها والإقبال بشكل أكبر عليها .

 

مثلما أن الإعتذار واجب فإن قبول الإعتذار والصفح أوجب ..

لأنه خلق الكرماء والنبلاء وقبول إعتذار المعتذر لا يعني قبولاً بالأمر الواقع أو ابتلاعاً للإهانة ..

بل تسامح وإنصاف وحفظ للود وروابط الأخوة والصداقة ..

في حالة الوالدين فإن قبول اعتذار الأبناء هو مساعدة لهم على البر بهما .

 

ثقافة الإعتذار ممارسة تحتاجها مجتمعاتنا كثيراً وينبغي زرعها في نفوس الأطفال ، وبحيث تصبح جزءاً من ثقافتهم فتنعكس إيجابياً على مجمل علاقاتهم الاجتماعية لاحقاً ..

وعندها فقط سيستطيعون ممارسة الإعتذار بلا تردد ودون شعور بضعف أو خجل فإن الدين المعاملة .

تَلَقي الأعذار بطيب نفس وبالعفو والصفح يحض الناس على الإعتذار ..

وسوء المقابلة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه يجعل النفوس تصر على الخطأ وتأبى الإعتراف بالزلل وترفض تقديم المعاذير ..

فإن بادر المسيء بالإعتذار فبادر أنت بقبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع المعروف .

 

وفي النهاية ..

توصية أقدمها لكم أيها الأحباب

احرص على تعويد طفلك منذ الصغر على الشجاعة في تحمل أخطائه وعلّمه أنّ من أخطأ حقّ عليه الإعتذار ..

واعتذار لطفل في الصغر سوف يعوّده على تحمل المسؤولية في الكبر ، وسوف يجعله قادر على الوصول إلى إتيكيت الإعتذار الذي ينبغي على كلّ فرد أن يدركه .


تمت والحمد لله رب العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى